تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 217 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 217

217 : تفسير الصفحة رقم 217 من القرآن الكريم

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم
مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ
أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ
إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ {71} فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ
أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72}
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ
{73}
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ( واتل عليهم ) أي أخبرهم واقصص عليهم أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك ( نبأ نوح ) أي خبره مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك ( إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم ) أي عظم عليكم ( مقامي ) أي فيكم بين أظهركم ( وتذكيري ) إياكم ( بآيات الله ) أي بحججه وبراهينه ( فعلى الله توكلت ) أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أولا ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) أي فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) أي ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا بل أفصلوا حالكم معي فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلي ولا تنظرون أي ولا تؤخروني ساعة واحدة أي مهما قدرتم فافعلوا فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء كما قال هود لقومه ( إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ) الآية وقوله ( فإن توليتم ) أي كذبتم وأدبرتم عن الطاعة ( فما سألتكم من أجر ) أي لم أطلب منكم نصحي إياكم شيئا ( إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين ) أي وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل والإسلام هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم كما قال تعالى ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) قال بن عباس سبيلا وسنة فهذا نوح يقول ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) وقال تعالى عن إبراهيم الخليل ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وقال يوسف ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) وقال موسى ( يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) وقالت السحرة ( ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) وقالت بلقيس ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) وقال تعالى ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا ) وقال تعالى ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) وقال خاتم الرسل وسيد البشر ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) أي من هذه الأمة ولهذا قال في الحديث الثابت عنه نحن معاشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد أي وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت شرائعنا وذلك معنى قوله أولادي علات وهم الإخوة من أمهات شتى والأب واحد وقوله تعالى ( فكذبوه فنجيناه ومن معه ) أي على دينه ( في الفلك ) وهي السفينة ( وجعلناهم خلائف ) أي في الأرض ( وأغرقنا الذين كذبوا باياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ) أي يامحمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ
فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ
الْمُعْتَدِينَ {74}
يقول تعالى ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات أي بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم كقوله تعالى ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) الآية وقوله ( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه السلام فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض وقال بن عباس كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقال الله تعالى ( وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ) الآية وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ {75}
فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ {76}
قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ
السَّاحِرُونَ {77} قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا
وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ {78}
يقول تعالى ( ثم بعثنا ) من بعد تلك الرسل ( موسى وهارون إلى فرعون وملئه ) أي قومه ( بآياتنا ) أي حججنا وبراهيننا ( فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ) أي استكبروا عن اتباع الحق والإنقياد له وكانوا قوما مجرمين ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين ) كأنهم قبحهم الله أقسموا على ذلك وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان كما قال تعالى ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) الآية ( قال ) لهم ( موسى ) منكرا عليهم ( أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا ) أي تثنينا ( عما وجدنا عليه آباءنا ) أي الدين الذي كانوا عليه ( وتكون لكما ) أي لك ولهارون ( الكبرياء ) أي العظمة والرياسة ( في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ) وكثيرا ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في كتابه العزيز لأنها من أعجب القصص فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر فسخره القدر أن ربى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ورزقه النبوة والرسالة والتكليم وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه هذا مع ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان فجاءه برسالة الله تعالى وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة الأبية وقوى رأسه وتولى بركنه وادعى ما ليس له وتجهرم على الله وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل والله تعالى يحفظ رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه التي لا تنام ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب مما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله ( وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ) وصمم فرعون وملؤه قبحهم الله على التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين )